حكم الإسبال

الحمد لله.

الإسبال : الإرخاء والإطالة. يقال: أسبل إزاره: إذا أرخاه. وأسبل فلان ثيابه: إذا طولها وأرسلها إلى الأرض.(الموسوعة الفقهية).
أجمع العلماء على حرمة إسبال الثوب للخيلاء والتكبر. واختلفوا إن كان إسباله لغير خيلاء، قال قوم حرام مطلقا، وهذا مذهب الظاهرية، وبه قال ابن العربي المالكي و الذهبي وابن حجر والصنعاني واستدلوا :
--قال ﷺ :" إسبال الإزار من المخيلة".(صحيح رواه أحمد). فهذا فيه دليل عن الإسبال كله مخيلة.
ورد عليهم بأن [من] تبعيضية أي بعضه وليس كله، ثم هب أنه كله كذلك، فهذا خرج مخرج الغالب، كقول ربنا:"ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا". قال الطاهر بن عاشور:"الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب ; لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف".(التحرير والتنوير).
وكقول ربنا:"وربائبكم اللاتي في حجوركم ".قال ابن كثير:" وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الإنسان تكون في تربيته ، فهذا الكلام على الأعم".(التفسير).
فكذلك فإن الغالب على عهدهم أن الإسبال لا يكون إلا مخيلة.

-قال ﷺ:"ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".(البخاري).
و قال ﷺ:"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ".(متفق عليه).

فقد"دلت الاحاديث على ان ما تحت الكعبين فى النار، وهو يفيد التحريم. ودل على ان من جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه، وهو دال على التحريم، وعلى ان عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هى عدم نظر الله إليه، وهو مما يبطل القول بأنه لا يحرم الا اذا كان للخيلاء".(استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال.الصنعاني).
ورد عليهم بأن الحكم واحد وهو الحرمة، فدل المنع عليها، والتعدد هو تعدد العقوبات لا تعدد الاحكام،وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة". وورد:"عصارة أهل النار". وورد"أن يسقيه من طينة الخبال.وورد:" لعن الله الخمر..".
بل كذلك ورد في هذه المسألة من قوله"من وطئه من الخيلاء وطئه في النار". فجاء الإسبال هنا مقيدا بالخيلاء مع ذكر نفس عقوبة الحديث المطلق :"ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
وقد ورد :"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . قال : فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرار ، قال أبو ذر : خابوا وخسروا ، من هم يا رسول الله ؟ قال المسبل ، والمنان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
فهنا أطلق الإسبال دون شرط المخيلة , في حين قيدها في حديث ابن عمر :"رضي الله عنهما : :"من جر ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة".

-عن عمرو بن زرارة الأنصاري قال:"بينا هو يمشي قد أسبل إزاره إذ لحقه رسول الله ﷺ وقد أخذ بناصية نفسه، وهو يقول: اللهم عبدك ابن عبدك ابن أمتك. قال عمرو : فقلت : يا رسول الله: إني رجل حمش الساقين. فقال: يا عمرو إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه. وضرب رسول الله ﷺ بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار ثم رفعها ، ثم وضعها تحت الثانية ، فقال : يا عمرو هذا موضع الإزار".(صحيح رواه أحمد). فرسول الله ﷺ نهاه ولم يسأله عن نيته، فدل هذا على النية غير معتبرة هنا.
ورد عليهم بإنه إنما نهاه مظنة الوقوع فيه، قال ابن حجر:"وظاهره أن عمرا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء ، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة".(الفتح).

- عن أبي هريرة قال:"نهى رسول الله ﷺ عن السدل في الصلاة".(رواه الترمذي وحسنه الألباني).قال القاري:"قيل: هو إرسال اليد".(مرقاة المفاتيح).
ورد عليهم بأنه حديث ضعيف، وإن صح فلا يمكن حمله على سدل الثوب، فقد يطلق على سدل اليدين والثوب والشعر وغيرها. قال الشوكاني:" ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها ، وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي".(نيل الأوطار).

-قال رسول الله ﷺ : "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة : فكيف يصنعن النساء بذيولهن ؟ قال :يرخين شبر .فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ؟ قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه".(صحيح رواه الترمذي).
قالوا:"أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى ، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا ، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال ، من أجل ستر العورة ، لأن جميع قدمها عورة . فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط".(الفتح).
ورد عليهم بان الحديث مصدرا بقوله:"من جر ثوبه خيلاء". والقول أنها فهمت منه استواء النهي لغير علة يحتاج منكم دليل على فهمها.

القول الثاني الجواز، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة وبه قال النووي وابن تيمية والشوكاني واستدلوا :
- قال ﷺ:"من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله يوم القيامة إليه ".(متفق عليه). فالنبي ﷺ قيد الحرمة بالخيلاء فنحمل المطلق على الميقد.
ورد عليهم أن من شروط حمل المطلق على المقيد اتحاد الحكم والحكم هنا مختلف، ويشكل عليكم قول النبي ﷺ:"إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من ذلك ففي النار، من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه".(صحيح رواه أحمد). فقد جمعت في سياق واحد.
وأجيب أن المعنى "من أسبل ثوبه خيلاء وكبرًا ، حق له أن يطأ في النار إلى كعبيه ، لأن الله لا يرحمه يوم القيامة بل يمقته. و هذا ما فهمه الإمام مالك من الحديث ، حيث أورده في (باب) ما جاء في إسبال الرجل ثوبه .
و الدليل على أن قوله "ما أسفل الكعبين "يراد به الإسبال ، حديث جابر بن سليم رضي الله عنه الطويل وفيه:" وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيتَ فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة .
فقد اعتبر مجاوزة الكعبين إسبالاً فنهاه عن ذلك . فصار قوله " إياك و الإسبال" في هذا الحديث ، مقابل قوله " ما أسفل من ذلك ففي النار" في حديث أبي سعيد الخدري ، و كذلك هي السنة يصدق بعضها بعضًا .
و نظيره حديث ابن عمر رضي الله عنهما :" الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
فقد أجمل الإسبال المنهي عنه ثم بيّن المقصود بالنهي . فهل يصلح أن يقال : أنّ فيه حكمين ؛ الإسبال مطلقًا ، و الجر خيلاء ؟ لا يمكن ذلك و لا يستقيم ، لأنك أنّى توجهت وجدت الإسبال مرادفًا للجرّ و مقيّدًا بالمخيلة".(أنظر:طرح العتاب).

-عن أبي بكرة قال"كنا عند رسول الله ﷺ فانكسفت الشمس فقام النبي ﷺ يجر رداءه حتى دخل المسجد".(البخاري).
وعن عمران بن حصين، أن رسول الله ﷺ صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس".(مسلم).
ورد عليهم بأن"الفزع والغضبان والناسي لا قصد لهم أصلا بل لا يخطر ببالهم الاسبال، فلا يقال ان فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك دليل على أن النهى عن الإسبال للتنزيه وأن فعله لبيان الجواز، لأنه لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم فعلا مقصودا، ولأنه تقدم فى أحاديث الوعيد بالنار الذي لا يكون إلا على فعل محرم".(استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال).

-قال ﷺ:"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست ممن يصنعه خيلاء".(متفق عليه). فقالوا النبي ﷺ بين العلة بقول:"لست ممن يصنعه خيلاء".
ورد عليهم بان أبا بكر قال:"أتعاهد ذلك منه" فبين سبب إسبااله ذاك.
وأجيب لو كانت العبرة بالتعاهد قال:"إنك تتعاهده" ولكن النبي بين العلة وهي الخيلاء.
ورد على هذا أبضا، بأن أبا بكر كان في حكم المكره، كما سبق في حال الغضب والخروج مسرعا،فهذا" ليس بإسبال فإنه لا بد أن يكون من فعل المسبل نفسه، وهنا نسب الاسترخاء إلى الإزار من غير إرادته،.. أنه لا بد من القصد فى الإسبال أنه لا يحرم جره حال الفزع والغضب والنسيان كما قدمنا".(استيفاء الأقوال.الصنعاني).

--قال ﷺ:"الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر منها شيئا خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة".(صحيح رواه أبو داود).فهذه الملابس اليوم التي نلبسها لا ديخل الإسبال أصلا وقد خت بالحديث مع السراويل كانت معلومة حينها.
ورد عليهم:" إنما خص الإزار بالذكر فى حديث أبى هريرة - والله أعلم - لأن أكثر الناس فى عهده عليه السلام كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار، وأن النهى عما جاوز الكعبين منها داخل فى معنى نهيه عليه السلام عن جر الإزار، إذ هما سواء فى المماثلة، وهذا هو القياس الصحيح".الكلام للطبري.نقله عنه ابن بطال.شرح البخاري).
وبهذا أحفوا كل الملابس حتى العمامة والكمان..

-- عن أبي وائل عن ابن مسعود:" أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك، فقال: "إني رجل حمش الساقين".(صحيح رواه ابن أبي شيبة).
ورد عيهم بأن المقصود هو الزيادة عن الساقين لا ما تحتب الكعبين. وهب أنه لم يكن هذا فهو معارض للاحاديث الصحيحة.

**أقول : النهي عن الإسبال إما أن يكون تعبديا محضا ولا ندرك علته، فقد علمت الكلام فيه.
أو يكون معللا، وهذا ظاهر كلام الفقهاء الذين منعوا من الاسبال مطلقا فهم منعوا منه خوفا من الوقوع في الكبر، فيكون الذي يسبل ثوبه، به تكبر ولو ادعى غير ذلك، كمن تداوى من الخمر بالخمر، فيكون المعنى أن كل مسبل متكبر، قال ابن العربي:"لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أتكبر فيه لأن النهي قد تناوله لفظا وتناول علته ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكما فيقال إني لست ممن يمتثله لأن تلك العلة ليست في فإنه مخالفة للشريعة ودعوى لا تسلم له بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعا".(عارضة الأحوذي)".
فتأمل قوله رحمه الله:"دعوى لا تسلم له بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعا". فهو يتحدث عن حال كان الإسبال ظاهرة معلومة عندهم وأن غالب الناس تفعله للخيلاء.
قال الذهبي:"وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس".(سير أعلام النبلاء).
وقال ابن حجر:"الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ".(الفتح).

وهذا هو ما لا يتحمله عصرنا، فكيف لاحد أن يتعرض للكبر أو يظن به، وسرواله قد بلغ الكعبين؟.
فهذا إنما يقال في مجتمع الملابس فيه نادرة، والناس لا تجد ما تلبسه فكان قوم يجروها ليبينوا للناس غناهم، وهذا ظاهر في حديث أبي هريرة قال:"لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته".(البخاري).
فتأمل قوله:" يبلغ نصف الساقين". فقد كان هذا دلالة على التواضع والفقر.
فيتبين أن للعرف في هذا مدخلا، لذا قال العراقي في حديثه عن الإسبال في الكم:"فإن كان ذلك على سبيل الخيلاء فهو داخل في النهي، وإن كان على طريق العوائد المتجددة من غير خيلاء فالظاهر عدم التحريم".(طرح التثريب).

وقد ذكروا عللا أخرى للتحريم،قال ابن حجر:"إن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء..قد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به..ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء.. ".(الفتح).
فإن تجرد الباحث قليلا يجد قول ابن حجر (من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم) عجيب فهل يتوافق هذا مع ملابسنا اليوم؟ وهل من الإسراف أن تطيل ثوبك لبلوغ الكعب؟.
وقوله (فيه من جهة التشبه بالنساء). فهل يتصور في قياس سراويل الرجال على ملابس النساء؟.
وقوله (لا يأمن من تعلق النجاسة به) فهل يتصور هذا؟ وهل وجدت يوما نجاسة بسروالك؟.

وقوله( كونه مظنة الخيلاء) هذا ما لا يتصوره من يعيش في عصرنا أو على الأقل في بلدنا.
هذا ويظل رفع الثوب أجمل وأفضل، قال ابن عبد البر:"وهذا الحديث يدل على أن من جر إزاره من غير خيلاء ولا بطر أنه لا يلحقه الوعيد المذكور ، غير أن جر الإزار والقميص وسائر الثياب مذموم على كل حال ".(التمهيد).
والله من وراء القصد.
(قاسم اكحيلات).