حكم الموسيقى


الحمد لله.

من علامات التعلق بالهوى أنك ترى الناس تلهث وتتكلف فُهوما لتطوع لها مراميها، فتجد المقلد الذي ينكر عليك الترجيح ليله وناره قد خرج عن مذهبه، حتى صار ظاهريا جلدا في مسألة السماع، وصار منهم من يقلد ابن حزم الذي شنع عليهم التقليد والركود. والموسيقى حرام بالقرآن والسنة والإجماع.
- قال ربنا :{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين}.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:"الغناء، والذي لا إله إلا هو".(صحيح رواه ابن أبي شيبة).وصححه ابن حجر والبيهقي والحاكم.(انظر:التلخيص الحبير.2113).
وهذا لا يمكن أن يقال بالرأي والتخمين وقد أقسم عليه رضي الله عنه وهو أعلم بالتفسير من غير وهو القائل:"والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني، تبلغه الإبل، لركبت إليه".(البخاري.5002.مسلم.2463).
وقد وافقه على هذا ابن عباس رضي الله عنه قال:" الغناء وأشباهه".(صحيح في الأدب المفرد.786 ).
وبهذا يظهر خطأ ابن حزم في قوله:"وأما تفسير قول الله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} بأنه الغناء فليس عن رسول الله، ولا ثبت عن أحد من أصحابه، وإنما هو قول بعض المفسرين ممن لا يقوم بقوله حجة".(رسالة في الغناء.435). فأنت ترى أنه قد صح عن ابن مسعود وابن عباس.
وقد يشكل على هذا قوله ربنا{ ليضل عن سبيل الله}، فاللام هنا تظهر أن المحرم فيمن كانت نيته الإضلال عن سبيل الله، وكل شيء يقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام، ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن".(رسالة في الغناء.435).
وهذا ليس بمشكل، فاللام هنا للصيرورة، كقول ربنا{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}. ودليل هذا قراءة في قوله {ليُضل} بفتح الياء {ليَضل}، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو.
- قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ".(البخاري.5590).
لكن قال ابن حزم:"ولا يصح في هذا الباب شيء أبدا، وكل ما فيه فموضوع".(المحلى.565/7).
قلت : هذا خطأ فاحش، والعجيب أن من لا علم له قلد ابن حزم حتى في خطئه، قال محمد عمارة :"أما المرويات والمأثورات تحرم الغناء والمعازف، فلقد ثبت بمقاييس الراوية ومعايير الجرح والتعديل للرواة أن جميعها مطعون فيه، وليس فيها حديث واحد صحيح".(الغناء والموسيقى حلال أم حرام.ص:19). وهذا كلام على غير قواعد أصلا، بل هو جمود وتقليد لابن حزم رحمه الله .
وابن حزم أحسن منهم فقد بين سبب ضعفه وقال :"فلم يورده البخاري مسنداً وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار".(رسالة في الغناء.ابن حزم).
قلت : رضي الله عنك، خفيت عنك خافية، وذلك أن (قال) كـ (عن) فهي تحمل على السماع إذا لم يكن الراوي مدلسا.
وبالتالي فلا انقطاع في هذا أصلا من جهة أن البخاري لقى هشاما وسمع منه ومعلوم أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل قول الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه وكذا غير قال من الألفاظ".(صيانة صحيح مسلم.ابن الصلاح.ص:83).
والعجيب أن ابن حزم تناقض، لأنه قال :" وسواء قال (حدثنا) أو (أنبأنا) أو(قال (عن فلان) أو قال (قال فلان) كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحدا منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة".(الإحكام.21/2).
والبخاري قال (قال) وهو غير مدلس فوجب قبول الرواية!!.
ثم هب أنه منقطع، فقد وصله ابن حبان (الصحيح.6754) والطبراني في (الكبير.3417). و(مسند الشاميين.588). وأبو نعيم وأبو بكر الإسماعيلي، وطرق أخرى كثيرة ذكرها ابن حجر في (التغليق التعليق.22/5) وقال:"وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلا فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات".
ثم أجابوا : هب أنه موصول، ألم تر أن الراوي شك فقال:" ثنا عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ".(رسالة في الغناء.434).
ورُد عليهم : أن أبو عامر وأبو مالك صحابيان، وجهالة الصحابي لا تضر، فهم سواء في الرواية. (راجع:تعليق التغليق.22/5) و(تحرير علوم الحديث.الجديع.854/2).
ثم أجابوا : هب أن الحديث صحيح، لكن معناه لا يفيد الحرمة، وإنما غاية ما فيه ظهور المعازف، وهذا لا يقتضي تحريم كالحديث عن كثرة النساء.
قلنا: هذا إخبار في سياق الذم، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة".(البخاري.5789.مسلم.2088).
قالوا : الحديث جمع أمورا محرمة فكان الخسف لاجلها لا المعازف. بالإضافة أن لفظ (يستحلون) لا يدل على أنها كانت محرمة قبل ذلك.(الموسيقى.الجديع.88-89).
قلنا : الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأيضا يلزم في مثل قوله تعالى : {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم.ولا يحض على طعام المسكين}. أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر. فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف".(راجع نيل الاوطار.116/8).
ودلالة الاقتران حجة باإاجماع إن كانت في الألفاظ، قال الزركشي:" أما إذا كان المعطوف ناقصا، بأن لم يذكر فيه الخبر فلا خلاف في مشاركته للأول، كقولك: زينب طالق وعمرة".(البحر المحيط.111/8).
وقوله (يستحلون) يدل على تحريمها، وإلا ما عوقبوا على استحلال حلال.
- عن نافع قال:"سمع ابن عمر، مزمارا قال: فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟. قال: فقلت: لا، قال: فرفع إصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا".(صحيح رواه أبو داود.4924).
وهذا دليل على حرمتها، ولو كانت مباحة ما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه.
أما القول أنه لو كان حراماً ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه.(رسالة في الغناء.437).
فلا بد من التفريق بين السماع والاستماع، فابن عمر كان سامعا لا مستمعا،ونظير هذا المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه. ونظير هذا نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.(بدائع التفسير.59/1).
- قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن في أمتي خسفا، ومسخا، وقذفا. قالوا: يا رسول الله , وهم يشهدون أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم , إذا ظهرت المعازف والخمور ولبس الحرير".(حسن رواه ابن أبي شيبة.37545).
قالوا: قوله (ظهرت) دليل على فشو ذلك وبلغ مبلغا عظيما من الترف". (الموسيقى.الجديع.103-104).
قلت : هذا تكلف ظاهر، فالحديث علق الأمر على مجرد الظهور، والخروج عن إلى تأويل آخر أبعد يحتاج لدليل.
- قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله حرم علي، أو حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام".(صحيح رواه أحمد.2477).
والكوبة هي الطبل.
وحاول بعضهم إخراجها عن معناها إلى النرد وهذا مخالف لما عليه رواة الحديث وهم أعلم بالراوية، وعلى فرض عدم الترجيح فالأولى حمله على المعنيين.
- عن أبي هريرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وكسب الزمارة".(صحيح رواه البغوي.23/8).
وقد حكى الإجماع أكثر من 26 عالما على حرمتها، بل لم يخل قرن من القرون إلا وتجد من حكى الاجماع، والعجيب أنه لن تجد مذهبا إلا وحكى منتسب اليه الاجماع.
عن الأوزاعي قال:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتابا فيه:..وإظهارك المعازف، والمزمار بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء".فصحيح رواه النسائي.4135).
وفي القرن الثالث حكاه زكريا بن يحيى الساجي وفي القرن الرابع الآجري، وفي القرن الخامس أبو الطيب الطبري وابن عبد البر، وفي القرن السادس ابن قدامة وأبو القاسم الدولعي، وفي القرن السابع ابن الصلاح والقرطبي والعز بن عبد السلام، وفي القرن الثامن ابن تيمية وابن القيم وابن رجب.وفي القرن التاسع العراقي والبزازي، وفي القرن العاشر ابن حجر الهيثمي، وفي القرن الثالث عشر الألوسي و الطحطاوي وفي القرن الرابع عشر الغماري.(راجع.المعازف في الميزان.الطريفي).
أما المذاهب الأربعة فالنقول كثيرة ونذكر مذهب المالكية إفحامها للمتمذهبة عندنا :
سئل مالك عن ضرب الكبر وعن المزمار ينالك سماعه وتجد لذته في طريق أو مجلس؟.
قال: فليقم إذا التذ لذلك إلا أن يكون جلس لحاجة أو لا يقدر أن يقوم، وأما الطريق فليرجع أو يتقدم أو يتأخر.".(الجامع لمسائل المدونة.201/4).
قال ابن رشد المالكي:"أما العود والبوق فلا اختلاف في أنه لا يجوز استعمالهما في عرس ولا غيره".(البيان والتحصيل.472/1).
قال العدوي المالكي:"[قوله: سماع شيء] أي صوت شيء [قوله: كالعود] أي والطنبور [قوله: إلا الدف في النكاح] أي المعروف بالطار".(الحاشية.433/2).
قال أصبغ:"يحرم ما عدا الدف والكبر من مزمار وغيره".(شرح مختصر خليل للخرشي.304/3).
المازري :"وأما الغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع".(مواهب الجليل.153/6).
قال الدردير:"والراجح أن الدف والكبر جائزان لعرس مع كراهة الكراء، وأن المعازف حرام كالجميع في غير النكاح فيحرم كراؤها".(الشرح الكبير.18/4).
قال ابن أبي زيد القيرواني:" ولا تحضر من ذلك ما فيه نوح نائحة أو لهو من مزمار أو عود أو شبهه من الملاهي الملهية إلا الدف في النكاح وقد اختلف في الكبر ".(الراسالة.158).
قال ابن عبد البر:"من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغاء والسحت والرشاوي وأخذ الأجرة على النياحة والغناء".(الكافي في فقه أهل المدينة.444/1).