القيام للجنازة
السؤال :
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته شيخنا أحسن الله اليكم. شيخنا اليوم كنا ذاهبين بجنازة، و لما كنا في الطريق شيخنا بعض السيارات المارين ضدنا يقفون و منهم من يقف و يخرج من السيارة و يقف حتى تمر الجنازة و هكذا بعض الرجال يكونون جالسين ثم ينهضون واقفون حتى تمر الجنازة . فهل لهذا شيخنا دليل و هل يجوز هذا.
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيكم.
الخلاصة :«الذي عليه جمهور العلماء من الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية والحنابلة أنه لا يقام لها، وخالف في ذلك ابن حزم وهو قول عند الشافعية وقالوا بالقيام. والذي نراه استحباب القيام لها».
اختلف العلماء في حكم القيام للجنازة :
القول الأول : يقام لها، وهذا مذهب ابن حزم وقول عند الشافعية، وبه قال أبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وسهل بن حنيف وقيس بن سعد، وقال به من المالكية ابن حبيب وابن الماجشون، واستدلوا :
- عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع». [صحيح مسلم (3/ 56 ط التركية)].
-عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا». [صحيح البخاري (2/ 85)].
- عن«يزيد بن ثابت، أنه كان جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فطلعت جنازة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار، وثار أصحابه معه ، فلم يزالوا قياما حتى نفذت». [مسند أحمد (32/ 203 ط الرسالة)].
-وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: «كان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه». [مسند أحمد (24/ 444 ط الرسالة)].
ورد عليهم بأن هذه الأحاديث كانت أول الإسلام ثم نسخت.
القول الثاني : لا يقام لها، وهذا قول سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وهو مذهب المالكية، والحنفية، والحنابلة، وقول عند الشافعية. واستدلوا بأن الأحاديث المتقدمة منسوخة بحديث:
-علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:«عن علي بن أبي طالب أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد». [صحيح مسلم (3/ 58 ط التركية)].
وفي رواية: عن علي قال: « رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فقمنا، وقعد فقعدنا» - يعني: في الجنازة . -. [صحيح مسلم (3/ 59 ط التركية)].
وفي رواية :«أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس». [مسند أحمد (2/ 57 ط الرسالة)].
ورد عليهم بأن لفظ مسلم لا دليل فيه على النسخ، هذا من أفعاله ﷺ لصرف الأمر للاستحباب.
قال ابن حزم:«كان قعوده ﷺ بعد أمره بالقيام مبينا أنه أمر ندب , وليس يجوز أن يكون هذا نسخا ; لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ , والنسخ لا يكون إلا بالنهي , أو بترك معه نهي». [المحلى بالآثار (3/ 380)].
لكن اللفظ الآخر صريح في النسخ، وهو قوله:«أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس». [مسند أحمد (2/ 57 ط الرسالة)].
قلت : في صحته نظر، وهو عند أحمد "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو، قال: حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ..
محمد بن عمرو بن علقمة روى له البخاري مقرونا ومسلم متابعة، وهو صدوق حسن الحديث، وقد خالف فيه من هو أحفظ منه، وهو يحيى بن سعيد الأنصاري، كما أخرجه مسلم وغيره من طريقه، وتابعه شعبة، عن محمد بن المنكدر. وليس فيه هذا اللفظ.
قال الشوكاني«واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمئنان إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية. لا سيما بعد أن شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى على مثلهم الناسخ ووقوع ذلك منهم بعد عصر النبوة. ويمكن أن يقال: إن الأمر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة؛ لأن من علم حجة على من لم يعلم». [نيل الأوطار (7/ 411)]
-عن عبادة بن الصامت قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا، خالفوهم.». [سنن أبي داود (3/ 178 ط مع عون المعبود)].
قلت : مع ذلك هو ضعيف،رواه أبو داود: حدثنا هشام بن بهرام المدائني ، أخبرنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا أبو الأسباط الحارثي ، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية ، عن أبيه ، عن جده ، عن عبادة بن الصامت..
أبو الأسباط الحارثي هو بشر بن رافع الحارثي،قال البخاري:"لا يتابع على حديثه".قال الدارقطني:"منكر الحديث".قال ابن عبد البر:"تفقوا على إنكار حديثه وطرح ما رواه وترك الاحتجاج به لا يختلف علماء الحديث في ذلك".
وعبد الله بن سليمان الدوسي، قال البخاري:"فيه نظر، لا يتابع في حديثه"، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال ابن حبان:": يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه"وقال الذهبي في "لا يدرى من هو"، وقال الحافظ "ضعيف".
وسليمان بن جنادة ذكر البخاري الحديث في ترجمته وقال:"هو منكر". وقال أبو حاتم:"منكر الحديث"، وذكره أبو زرعة والعقيلي في الضعفاء، وقال ابن حبان "منكر الحديث فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث، ومعاذ الله أن نطلق الجرح على مسلم بغير علم بما فيه، واستحقاق منه له، على أنه يجب التنكب عن روايته على الأحوال".
فالحديث ضعيف كما ترى.
-«عن أبي معمر قال: كنا مع علي، فمر به جنازة، فقام لها ناس، فقال علي: من أفتاكم هذا؟! فقالوا: أبو موسى. قال: إنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهي انتهى». [مسند أحمد (2/ 381 ط الرسالة)].
فيه ليث بن أبي سليم تكلموا فيه وكان قد اختلط، قال ابن حجر:"صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك".
والذي نرجحه استحباب القيام للجنازة، ولم يثبت النسخ في حديث صحيح، وما صح يمكن معه الجمع، قال النووي:«ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر». [شرح النووي على مسلم (7/ 29)].
قال ابن عقيل:«كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم للجنازة لا يدل على النسخ لمقامه، ويمكن الجمع، وهو أن القيام لها مستحب، والجلوس جائز». [إعلام العالم بعد رسوخه بناسخ الحديث ومنسوخه (ص297)].
فائدة : اختلفوا في علة القيام لها، وذلك لاختلاف النصوص، فقد ورد«فإن للموت فزعا». [مسند أحمد (13/ 250 ط الرسالة)]. أي لا ينبغي الاستمرار على الغفلة على رؤية الميت، فالقيام لترك الغفلة، والتشمير للجد والاجتهاد في الخير.
وورد:«إنما قمنا للملائكة». [سنن النسائي (4/ 48)]. و«إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس». [مسند أحمد (11/ 135 ط الرسالة)]. . ولا تعارض لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة.
وورد:«أليست نفسا». [صحيح مسلم (3/ 58 ط التركية)]. ومعنى القيام لكونها نفسا أنها حل بها الموت الذي هو أمر عظيم، فينبغي له أن يقابله بالفزع والرهبة.
وكلها مجتمعة في تعظيم شأن الموت والفزع منه.
المجيب : أ.د قاسم اكحيلات.