تولي القضاء في ظل القوانين الوضعية.

السؤال :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جزاكم الله خيرا دكتور، ونتمنى من الله أن تكون صحتك جيدة. أريد التقدم إلى مباراة للقضاء، لكن أشكلت لي مسألة أن القاضي سيحكم بقوانين تخالف الشرع، فما رأيكم في مثل هذه المهن. 

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. 
بارك الله فيكم.

مثل هذه الوظائف يرجع الحكم فيها إلى الغرض والموازنة بين المصالح والمفاسد، فالذي نراه أن المسلم ينظر للمصلحة ولحاله، فمن كان سيدخلها بنية تقليل الشر وأنه أولى من غيره والحكم بمراد الله متى تيسر له ذلك جاز، لأن الأمر قائم وحقيقة، وتولي من يخاف الله أولى من الفاسد، وهذا الأمر معتبر في الشريعة، ويدل عليه ما رواه أحمد في المسند من حديث أم سلمة قالت عند حلولهم في أرض النجاشي :«..فوالله إنا على ذلك إذ نزل به - يعني من ينازعه في ملكه - قال: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي .. قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده». [مسند أحمد (37/ 175 ط الرسالة)]. 
فالصحابة دعوا له بالنصر رغم كفره، وما ذلك إلا لأنه أفضل وأرحم بهم من غيره، وهذا الذي وقع حينما استولى التتار على أراضي المسلمين، قال ابن تيمية :«والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه ‌لا ‌يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها». [مجموع الفتاوى (19/ 218)].
ويُستدل على ما ذكرنا أمر يوسف حينما قال : ﴿قَالَ ‌اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]. ومصر لم تكن على الإسلام، ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ‌حَتَّى ‌إِذَا ‌هَلَكَ ‌قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) ﴾ [غافر: 34]. وقد تولى بعض الأئمة كصلاح الدين الأيوبي الوزارة في الدولة العبيدية، وتولى جماعة القضاء فحكموا بالعدل في زمن الدولة البويهية والعبيدية، ولم يحكم الأئمة بكفرهم لمجرد كونهم تحت ولاية مشركة مع سعة الأقطار التي حكمتها تلك الدول، وطول المدة التي تولوا فيها، وإنما هم موكولون إلى عملهم وما قام بأنفسهم، والله يفصل بينهم بما يعملود هم أنفسهم.
وإذا جاز من النجاشي ومن ملك مصر - إن صح إسلامه - أن يحكم قوما كافرين، ولا يظهرون حكمهم فيهم بحكم الله الظاهر لهم الذي به يعرف الناس إسلامهم، فإن جوازه لمن تولى ولاية صغرى تحته من باب أولى، فلو كان تحت النجاشي وال يكتم إسلامه مثله ولم يعلم أحدهما بالآخر، وتولى ليقوم بالقسط ويدفع الظلم، ويظن أن الملك النجاشي باق على كفره، فإنه لا يصح أن يحكم بكفر من تحت النجاشي ويحكم بإسلام النجاشي نفسه، فإن صح للنجاشي الإسلام وحاله تلك، فإن صحته لمن دونه من باب أولى، بل إن الأمر بيد النحاشي أقوى من يد من دونه من أصحاب الولايات الصغرى. [التفسير والبيان لأحكام القرآن الطريفي (3/ 1640)].
وهذه المسألة تشمل أمورا كثيرة يرجع فيها للموازنة بين المصالح والمفاسد، فمن كان يرجو تقليل الشر ورحمة الناس وإقامة العدل قدر الاستطاعة فهو أفضل من غيره، وقد سئل ابن تيمية : عمن يتولى الولايات، ويُلزم بأخذ المكوس المحرمة من الناس، لكنه يجتهد في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، ويخفف من المكوس التي في إقطاعه فيسقط النصف، ولو ترك الولاية لحل محله من يزيد معه الظلم، فكان جوابه :
"نعم إذا كان مجتهدا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجبا إذا لم يقم به غيره قادرا عليه. فنشر العدل - بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان - فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم». [مجموع الفتاوى (30/ 358)]. ثم ذكر أمورا تتعلق بهذا.

فالحاصل : أن تولي القضاء يجوز لمن كانت نيته تقليل الشر وإقامة العدل قدر الإمكان، والحكم بشرع الله متى تيسر له، فهو أولى من غيره لأنه يريد تقليل الضرر على أهل الخير والفضل من المؤمنين، ولا يسمح بتولي من يسوء الناس سوء العذاب ويزدهم ظلما على ظلم، أما من لم تكن له نية كهذه ولا قدرة له، فلا يصح منه تولي القضاء.

المجيب : د. قاسم اكحيلات.