نشر مقاطع تُظهر المعاصي قبل التوبة

السؤال :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ينتشر في هذه الأيام ترندٌ يقوم فيه بعض الرجال والنساء بنشر مقاطع فيديو يُظهرون فيها ما كانوا عليه من المعاصي، ثم يعرضون في المقطع نفسه كيف مَنَّ الله عليهم بالهداية. فهل يجوز هذا الفعل؟ بارك الله فيكم.

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيكم.

تذكرُ المسلم لمعاصيه والندم عليها، وشكر الله على هدايته مما يستحسن، قال الله :﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) ﴾ [النساء: 94]. فتذكر الإنسان سالف أمره، لا بد أن يجد من تغير حاله ما يدرك به فضل الله عليه.
وتذكر الإنسان لسابقته يدعوه إلى التواضع وحضور العدل والإنصاف في نفسه، وكسر شوكة الكبر منها؛ وهدا يحتاج إليه كل أحد؛ لتطهير النفس، والعدل مع الناس، والرحمة بهم؛ فمن كان عالما، تذكر جهله، فرفق بالجاهل وعذره وعلمه، ومن كان مسلما بعد كفره، تذكر كفره، فعرف مواضع مؤاخذة الكافر، ومن كان غنيا، تذكر فقره فرحم الفقير وأعطاه. وتذكر الإنسان حالة قبل النعمة يذكره بفضل الله عليه ونعمته ورحمته به، فيتواضع ويرحم ويشكر؛ وهذا يحتاج إليه كل أحد؛ قال الله تعالى لنبيه ﷺ: {ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى: 6 - 8]، ثم قال الله مبينا أثر التذكير بسالف الأمر: {فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث (11} [الضحى: 9 - 11]، فذكره باليتم، ثم نهاه عن قهر اليتيم، وذكره بعدم العلم، ثم نهاه عن نهر السائل الجاهل، والسائل الفقير. [التفسير والبيان لأحكام القرآن (2/ 966)].

أما ما ذكرتم فلا يدخل فيما ذكرنا لأمور : 

- أنه مخالف للستر، والمؤمن مطالب بالستر على نفسه، فقد قال النبي ﷺ :«كل أمتي ‌معافى ‌إلا ‌المجاهرين». رواه البخاري «6069». [صحيح البخاري (8/ 20 ط السلطانية)]. 
- أن هذا يقلل من شأن المعصية، ويجعلها هينة في من يراها، فإن عرض الذنب، وتصويره، ومشاهدته مرات، يزيل هيبته من النفوس، ويجرّئ الناس عليه، وقد يغترّ بعضهم قائلاً: "كما تاب هو سنتوب نحن". وهذا باب خطير؛ إذ يقلّ في القلوب تعظيمُ حدود الله. قيل لابن عمر :«إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره؟! فقال: ‌كنا ‌نعد ‌هذا ‌على عهد رسول الله ﷺ النفاق». [مسند أحمد (10/ 88 ط الرسالة)]. فالتساهل في إظهار المعاصي يجرئ الناس عليها.
- بعض هذا قد يكون معصية في نفسه، كنشر المرأة صورها، وتبرجها، ونشر الشاب وجهه حليقا أو به وشم.. وهذه في نفسها محرمات، إذ لا يعقل أن ينشر الزاني زناه  ليظهر توبته!.
- في هذا تزكية للنفس، فهذا الذي تابت يظن أنه قد نجا،  فالمؤمن دائم الخوف مع الرجاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال :«إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من ‌أصابع ‌الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله ﷺ: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك». [صحيح مسلم (8/ 51)]. فكيف يظن الظان أنه قد نجا وهو في الهلكة وقع. قال ربنا :﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]. السعيد يحسن مع الخوف، والشقي يسيء مع الأمن.

نعم، قد يباح أن يحدث المرء بمعصية في حدود ضيقة ذكرها العلماء، قال النووي :«فإن أخبر بمعصيته ‌شيخه ‌أو ‌شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجا من معصيته، أو ليعلمه ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له، أو نحو ذلك، فلا بأس به، بل هو حسن، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة». [الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص368)].  وهذا  الذي ذكرتم لا مدخل له فيما ذكره العلماء، وإنما موجهة يقودها أقوام يحشدون الجماهير.

المجيب : د.قاسم اكحيلات.
راجع المقال بالأنجليزية .